توم براك لبنان بلد فاشل

توم براك: الدبلوماسية الحادة التي أشعلت فتيل الغضب اللبناني

بقلم: ليلى ناصر، وكالة أسنا للأخبار ASNA
1 نوفمبر 2025 – واشنطن

في زمن تتسارع فيه الأزمات الإقليمية، ويُخشى فيه من حرب جديدة على الحدود الجنوبية، يأتي المبعوث الأمريكي الخاص إلى لبنان وسوريا، توماس براك، ليُلقي بقنبلة كلامية أخرى في حضن الرأي العام اللبناني. خلال مشاركته في منتدى “حوار المنامة” بالبحرين اليوم السبت، وصف براك لبنان بأنه “دولة فاشلة” تعاني من أزمات سياسية واقتصادية عميقة، مشدداً على أن “الجيش اللبناني يعاني نقصاً في الموارد المالية والبشرية”، وأن “لم يعد هناك وقت أمام لبنان” لتأخير حصر سلاح حزب الله. هذه ليست المرة الأولى؛ فبراك، الذي يُعرف بنهجه الدبلوماسي الحاد والمباشر، أثار موجة غضب مشابهة في أغسطس الماضي عندما وصف سلوك الصحفيين اللبنانيين بـ”الفوضوي والحيواني” خلال مؤتمر صحفي في القصر الجمهوري. وفي سبتمبر، شكك في جدية الحكومة اللبنانية، متهماً إياها بـ”الكلام فقط دون أفعال” في ملف نزع السلاح.

هذه التصريحات، التي تُقرأ في سياق الضغوط الأمريكية المتصاعدة لإعادة ترتيب المعادلة الأمنية في الشرق الأوسط، ليست مجرد تعليقات عفوية، بل جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى دفع لبنان نحو “حصر السلاح” بيد الدولة، وفق قرار الأمم المتحدة 1701. لكنها، في الوقت نفسه، أثارت ردود فعل عنيفة تعكس جرحاً عميقاً في النسيج الاجتماعي والسياسي اللبناني، حيث يُنظر إليها كإهانة للسيادة الوطنية وتدخل استعماري صارخ.

الاستفزاز الذي يمس الجرح اللبناني: من “الحيواني” إلى “الدولة الفاشلة”

التصريحات الأخيرة لبراك ليست مفاجئة، لكنها تضرب في مقتل. وصف لبنان بـ”الدولة الفاشلة” يأتي في بلد يعاني من انهيار اقتصادي منذ 2019، مع تضخم يفوق 200% وفقدان ثلاثة أرباع قيمة الليرة، وأزمة طاقة تجعل الكهرباء نادرة لساعات يومياً. هذا الوصف، الذي يُقرن بتبرير الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على الجنوب بـ”تهديد الصواريخ”، يُفسر كتبرير للتدخل الخارجي، مما يُشعل غضباً شعبياً يرى فيه تكراراً للـ”وصاية” الأمريكية التي عانى منها لبنان تاريخياً.

أما الحادثة الأبرز في أغسطس، فكانت أكثر إيلاماً على المستوى الشخصي والمهني. خلال مؤتمر في بعبدا، انفجر براك غضباً من تداخل أسئلة الصحفيين، قائلاً: “في اللحظة التي يبدأ فيها الأمر بالفوضى أو بالسلوك الحيواني، سننهي كل شيء”، مضيفاً أن الإعلام اللبناني “غير متحضر” ويعكس حال المنطقة. هذا الوصف، الذي انتشر فيديوه في وسائل التواصل، أثار حملة هاشتاج #تومبراك و#الحيوانيالأمريكي، حيث وصفه ناشطون بـ”الاستعلاء الاستعماري”، معتبرين أنه يُهين ليس الصحفيين فحسب، بل الشعب اللبناني بأكمله الذي يرى في إعلامييه صوتاً لمعاناته اليومية. على منصة إكس، كتب أحد الناشطين: “براك يعاملنا كحيوانات، لكنه ينسى أن لبنان أنجب أعظم الصحفيين في العالم”، مما يعكس شعوراً بالإذلال الجماعي في وقت يبحث فيه اللبنانيون عن كرامة مفقودة وسط الأزمات.

في سبتمبر، أضاف براك وقوداً إلى النار بقوله إن “الولايات المتحدة سلحت الجيش اللبناني ليقاتل حزب الله، لا إسرائيل”، وأن الحكومة “لم تفعل شيئاً” لنزع السلاح. هذا التصريح، الذي يُقرأ كدعوة لصراع داخلي، أثار مخاوف من تكرار حرب أهلية، خاصة في جنوب لبنان حيث يُرى حزب الله كـ”درع” ضد الاعتداءات الإسرائيلية. الغضب الشعبي بلغ ذروته مع حملات على وسائل التواصل، حيث وصف مستخدمون براك بـ”الفاشل” و”المتآمر مع إسرائيل”، مما يُظهر كيف تحولت كلماته إلى رمز للعدوان الخارجي.

ردود السياسيين: بين الرفض الحاد والدفاع عن السيادة

لم يقتصر الغضب على الشارع؛ فقد انقسم السياسيون في ردودهم، لكن الغالبية رفضت التصريحات كتدخل في الشؤون الداخلية. رئيس الوزراء نواف سلام أعرب عن “استغرابه” من شكوك براك في جدية الحكومة، مؤكداً أن “الجيش يضطلع بمسؤولياته في حماية السيادة”، ودعا إلى ضغط دولي على إسرائيل بدلاً من الاتهامات الداخلية. أما رئيس مجلس النواب نبيه بري، فاعتبر التصريحات “مرفوضة شكلاً ومضموناً”، مشدداً أن “الجيش ليس حرس حدود لإسرائيل”، في إشارة إلى رفض أي دور للجيش في صراع داخلي.

من جانب حزب الله، كان الرد أكثر حدة؛ فقد وصف النائب إبراهيم الموسوي براك بـ”موفد الوصاية الأمريكية”، معتبراً تصريحاته “منطق سفاهة واستعلاء” يعكس “الفلسفة العدوانية المتوحشة” للولايات المتحدة. وفي خطاب حديث، أكد الأمين العام نعيم قاسم أن تصريحات براك “تضع لبنان في سلة واحدة مع سوريا وتهدد بالإسرائيلي”، معتبراً إياها “خرقاً واضحاً للسيادة”. حتى الوزير السابق زياد المكاري دافع عن الصحفيين، قائلاً: “الصحفيون في لبنان إرث كبير من الاحتراف والاحترام”.

بعض السياسيين، مثل النائب بيار بو عاصي من القوات اللبنانية، رأوا في كلام براك دعوة لـ”سط سلطة الدولة”، لكن الغالبية ربطت الردود بمخاوف من “حرب أهلية”، كما حذر اللواء جميل السيد، الذي اعتبر التصريحات “إنطباعاً حيوانياً” عن اللبنانيين.

التصريح الرسمي من الدولة: أسف مقنع ودفاع عن الكرامة

لم تتأخر الدولة اللبنانية في الرد الرسمي، الذي جاء من الرئاسة والحكومة مباشرة. في أغسطس، أعربت رئاسة الجمهورية عن “أسفها الشديد” لتصريحات براك التي صدرت “على منبرها”، واصفة إياها بأنها “كلام عفوي من ضيف”، لكنها شددت على “كرامة الإعلاميين ومكانتهم المطلقة”. وزير الإعلام بول مرقص أضاف بياناً يعبر فيه عن “أسفه”، مؤكداً “اعتزازه بدور الإعلام كركيزة للحرية”.

أما في سبتمبر، فقد جاء الرد من رئيس الوزراء سلام نفسه، الذي أكد التزام الحكومة بخطة الجيش للمراقبة الحدودية، ودعا إلى “ضغط دولي على إسرائيل” بدلاً من التشكيك في الدولة. هذه التصريحات الرسمية، رغم اعتدالها، تعكس محاولة للحفاظ على التوازن الدبلوماسي مع واشنطن، بينما تُطمئن الرأي العام بأن السيادة غير قابلة للمساومة. ومع ذلك، يرى مراقبون أن الصمت النسبي عن التصريح الأخير في المنامة يُشير إلى ضغوط داخلية تحول دون رد أقوى، خاصة مع اقتراب زيارة براك المرتقبة إلى بيروت.

بين الضغط والكرامة، هل ينجح التحريض الأمريكي؟

تصريحات توم براك، رغم حِدّتها، تكشف عن إحباط أمريكي من بطء التقدم في ملفات مثل نزع السلاح والإصلاحات، لكنها تُغذي دورة من الاستفزاز والغضب في لبنان. الشعب اللبناني، الذي يرفض الإذلال في أزمة وجودية، يرى فيها تكراراً للـ”وصاية” التي أدت إلى حروب سابقة. أما السياسيون، فبين رفضهم الحاد والدفاع عن السيادة، يُظهرون انقساماً يُعيق أي إجماع وطني. التصريح الرسمي من الدولة، رغم اعتداله، يبقى خطوة أولى نحو استعادة الكرامة، لكنه يحتاج إلى ترجمة عملية ليُقنع الشارع.

قد تكون كلمات براك سيفاً ذا حدين: تضغط على الحكومة للتحرك، لكنها تُعمق الشقوق الداخلية، مما يجعل الاستقرار أبعد من أي وقت مضى. هل ينجح الضغط الأمريكي، أم يُشعل فتيل مقاومة جديدة؟ الإجابة تكمن في قدرة لبنان على توحيد صفوفها، بعيداً عن الاستفزازات الخارجية.

Join Whatsapp