اللبناني يرث دهاء الفينيقيين ويشتري الوقت بمهارة لمواجهة إسرائيل بالتفاوض لا بالانبطاح
منذ فجر التاريخ، برع اللبناني، أو لنقل الفينيقي القديم، في فن التجارة والصفقات. لم يكن البحر الأبيض المتوسط مجرّد مسرح تنقل فيه السفن، بل كان مساحة حوار ومساومة وبناء تحالفات ذكية. الفينيقيون، بأساطيلهم وأسواقهم ومهاراتهم الدبلوماسية، لم يعتمدوا على القوة، بل على الحنكة، واستطاعوا ترسيخ نفوذهم الاقتصادي والثقافي في المنطقة من دون أن يدخلوا في حروب مفتوحة. هذه الوراثة العريقة في إدارة التفاوض بقيت حيّة في جينات اللبناني حتى اليوم.
لبناني اليوم… وريث العقل الفينيقي
ما نشهده اليوم على الساحة السياسية والميدانية ليس بعيدًا عن تلك المهارات الفينيقية. فالموقف اللبناني الرسمي تجاه التطورات الأمنية والسياسية، وخصوصًا في ملف سلاح حزب الله، يعكس فنّ “شراء الوقت” بذكاء وإعادة صياغة المعادلة، لا من باب المراوغة، بل من باب حماية المصلحة الوطنية.
لقد فهم اللبناني، حكومةً ومقاومةً، أن التسرّع في الرد أو الرضوخ للضغط الأميركي والإسرائيلي قد يفتح أبوابًا لا يمكن إغلاقها. ولذلك، عمدوا إلى بناء موقف موحّد بعد مشاورات معمّقة بين أطراف الدولة، وخصوصًا مع حزب الله، قبل تقديم أي ورقة تفاوضية.
مفاوضات توم باراك: التهدئة بالحكمة لا بالانبطاح
خلال زيارة الموفد الأميركي توم باراك إلى بيروت، لمس المراقبون تحوّلًا في اللهجة الأميركية. فبحسب مصادر “الجديد”، فإن وحدة الموقف اللبناني بعد التشاور مع حزب الله أدت إلى تراجع حدّة الموقف الأميركي واقترابه من الموضوعية، خصوصًا حين لمس الأميركيون أن لبنان لن يعود إلى موقعه الإقليمي إلا إذا توقّف العدوان الإسرائيلي أولاً.
هذه النقطة كانت حاسمة في لقاء رئيس مجلس النواب نبيه برّي مع توم باراك. زوّار بري أكّدوا أنه عبّر عن ارتياحه لما سمعه من الموفد الأميركي، معتبراً أن العبرة تبقى في التنفيذ، لا في الكلام فقط. الأهم أن حزب الله وافق على الورقة اللبنانية الموحّدة، والتي سُلّمت رسميًا إلى باراك، في إشارة نادرة إلى وجود تقاطع حقيقي بين المقاومة والدولة.
اللبناني لا يقول نعم بسرعة… بل يستشير ويتفاوض
هذا “التأنّي” اللبناني ليس تردّدًا، بل أسلوب تفاوضي متجذّر في العقلية اللبنانية، يهدف إلى ربح الوقت، و”تهدئة الميدان”، وفتح مجالات أوسع للتفاهم، دون تقديم تنازلات مجانية. فكما كان الفينيقيون يعقدون صفقاتهم التجارية على مدى أسابيع من التبادل، لا يرى اللبناني في الصراع اليومي مع القوى الكبرى سوى فرصة لعرض مصالحه ومطالبه، وإقناع الخصم بأن القوة وحدها لا تكفي.
التفاوض هو سلاح لبناني تاريخي
ما يجري اليوم على طاولة المفاوضات ليس بعيدًا عن جذور لبنان الأولى. في كل مرة يسعى فيها العدو إلى فرض أمر واقع، يردّ اللبناني بلغة الحوار المدروس، يعرف متى يتحدث، ومتى يصمت، ومتى يؤجل، ومتى يوقع. وبين هذه المهارات، تبقى قدرة اللبناني على “شراء الوقت” من دون أن يُشترى، هي الورقة الذهبية التي ورثها من أجداده الفينيقيين.
السؤال اليوم:
هل سينجح لبنان، مرة جديدة، في تحويل الأزمة إلى صفقة تحفظ السيادة وتُرضي الداخل والخارج؟
الجواب، كما قال نبيه برّي: “العبرة في التنفيذ”… لكن الأرضية أصبحت مهيّأة.