في تاريخ الأمم، تبرز شخصيات لا تُقاس عظمتها بعدد المناصب التي شغلتها، بل بعمق الأثر الذي تركته في وجدان الإنسانية. ومن بين هذه القامات الفكرية والدبلوماسية يسطع اسم شارل مالك، المفكر اللبناني الذي كان له دور محوري في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أحد أهم الوثائق الأخلاقية والقانونية في التاريخ الحديث.
شارل مالك: من لبنان إلى ضمير العالم
وُلد شارل مالك عام 1906 في بلدة بطرام – الكورة، في لبنان الذي كان آنذاك مختبرًا حيًا للتنوع الثقافي والديني والفكري. تلقّى علومه في الفلسفة واللاهوت، وتابع دراساته العليا في جامعات عالمية مرموقة، حيث تأثر بالفلسفة الوجودية والفكر الإنساني العميق، ما شكّل رؤيته للإنسان كقيمة مطلقة لا كأداة في يد السلطة أو الأيديولوجيا.
لم يكن مالك مجرد دبلوماسي، بل فيلسوفًا حمل همّ الإنسان إلى أروقة السياسة الدولية. وعندما شارك في تأسيس الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، كان العالم خارجًا من واحدة من أكثر فترات التاريخ دموية وظلمًا. في تلك اللحظة، أدرك شارل مالك أن إعادة بناء العالم لا يمكن أن تقوم على القوة وحدها، بل على مبدأ كوني يحمي كرامة الإنسان.
في قلب صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
كان شارل مالك عضوًا بارزًا في لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وشارك بفاعلية في النقاشات الفكرية والفلسفية التي أدت إلى إقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948. تميّز دوره بالدفاع الصلب عن حرية الفكر، وحرية الضمير، وكرامة الفرد، رافضًا اختزال الإنسان في هويته السياسية أو العرقية أو الدينية.
لقد كان صوت مالك جسرًا بين الشرق والغرب، بين الروحانية والحداثة، وبين الفلسفة والقانون. وساهم في جعل الإعلان العالمي وثيقة إنسانية جامعة، لا تعكس ثقافة واحدة، بل الضمير الإنساني المشترك.
لبنان: وطن صغير برسالة كبيرة
قصة شارل مالك ليست استثناءً، بل هي انعكاس لدور لبنان التاريخي كمساحة للحوار وصناعة الأفكار. فعلى الرغم من صغر مساحته الجغرافية، لعب لبنان دورًا محوريًا في صناعة الفكر، والدبلوماسية، والإعلام، والتعليم في العالم العربي والعالمي.
من لبنان خرج مفكرون، وأدباء، وفلاسفة، ورجال دولة، حملوا قضايا الحرية والعدالة إلى المحافل الدولية. وشارل مالك هو أحد أبرز الأدلة على أن القوة الحقيقية للأوطان لا تُقاس بالسلاح، بل بالعقل والقيم.
إرث محفّز للأجيال القادمة
في زمن تتجدد فيه التحديات أمام حقوق الإنسان، يعود إرث شارل مالك ليذكّرنا بأن الدفاع عن الكرامة الإنسانية مسؤولية دائمة، وأن للأفراد القدرة على تغيير مسار التاريخ إذا امتلكوا الرؤية والشجاعة الأخلاقية.
إن استحضار سيرة شارل مالك اليوم ليس مجرد احتفاء بالماضي، بل دعوة للأجيال اللبنانية والعربية كي تؤمن بدورها في صناعة المستقبل. فلبنان، بتاريخ شخصياته وتأثيرها الإيجابي، لم يكن يومًا على هامش التاريخ، بل كان ولا يزال شريكًا في صياغة معناه الإنساني.
وهكذا، يبقى اسم شارل مالك شاهدًا على أن الفكر اللبناني، عندما يُمنح الفرصة، قادر على أن يترك بصمته في ضمير العالم، وأن يساهم في كتابة صفحات مضيئة من تاريخ الإنسانية.



