بقلم: فادي الياس – وكالة أسنا للأخبار ASNA
في الزمن الذي تتعب فيه الكلمة وتبهت فيه الصورة، يبقى صوتٌ كصوت طليع حمدان قادراً على إيقاظ الحنين في القلوب، وإعادة الدفء إلى ذاكرة الشعر الشعبي اللبناني. برحيله في 25 تشرين الأول 2025، خسر المنبر الزجلي ركناً من أركانه، وخسرت عين عنوب ابنها الذي غنّى للكرامة والجبل والحب، فصار اسمه مرادفاً للزهر والعطر والنسيم.
طفولةٌ بين العيون والقصائد
وُلد طليع نجيب حمدان، المعروف بـ”أبو شادي” و”شاعر المنبرين”، في 19 كانون الثاني 1944 في قرية عين عنوب في قضاء عاليه – جبل لبنان، لعائلة درزية عُرفت بكرمها وتقاليدها الريفية. كان والده نجيب حمدان مزارعًا محبًا للأرض، ووالدته فاطمة يحيى سيدة جبلية ربت أحد عشر ولدًا على الصدق والصلابة.
في تلك القرية التي تُفاخر بعيون مياهها الـ366، نشأ الفتى الصغير على أصوات الزجّالين في الأعراس والساحات، فوقع في عشق الكلمة مبكرًا. تأثر بالشعراء المحليين إلياس حرب، جميل شجاع، شفيق شجاع، وجورج حرب، حتى صار يهرب من المدرسة ليحضر حفلات الزجل، رغم تحذيرات والده: “إوعى تغلط يا طليع قدام الناس”.
لكن تلك “الغلطة الجميلة” كانت بداية مجده.
منبره الأول… وولادة الصوت
عام 1963 كانت انطلاقته الفعلية، أما عام 1964 فشهد أولى حفلاته الرسمية إلى جانب زين شعيب، أحد أعمدة الزجل اللبناني. وفي العام التالي، انضم إلى جوقة زغلول الدامور التي ضمّت آنذاك زين شعيب وإدوار حرب، فبرز صوته الحنون وأسلوبه الرقيق الذي جمع بين الشموخ الجبلي والعاطفة العذبة.
دامت تلك التجربة عقدًا من الزمن، حتى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، التي أوقفت آخر حفلات الجوقة في أوتاوا (كندا). غير أنّ انطفاء الضوء لم يوقف شغفه، فأسّس عام 1976 جوقة الربيع التي أصبحت علامة فارقة في تاريخ الزجل.
جوقة الربيع… صرح الكلمة اللبنانية
مع رفاق دربه خليل شحرور، أنطوان سعادة، ونزيه صعب، ثم فيكتور ميرزا، نديم شعيب، ومازن غنّام، صنع طليع حمدان منبرًا يجمع الأصالة والتجديد.
جالت الجوقة لبنان من شماله إلى جنوبه، وامتد صداها إلى المغترب اللبناني في كندا وأميركا وإفريقيا ودول الخليج.
كان المنبر معه مساحة للفكر والشعور، لا للخصام ولا للسياسة.
وغنّى طليع حمدان قصائد وطنية وغزلية راقية، لحن بعضها وغنّاه فنانون كبار، بينهم فيروز التي لحّنت من كلماته مقاطع ربيعية تحمل عبق الجبل.
عام 2001 كرّمه الرئيس إميل لحود بمنحه وسام الأرز الوطني، تقديرًا لمسيرته التي أعادت إلى الزجل نغمه الجميل.
أما دواوينه، فستّةٌ تتوّج مسيرته:
«براعم ورد» (1990) – «جداول عطر» (1995) – «ليل وقمر» (1999) – «حياتي قصيدة» – «انطريني أنا جايي» (2011) – «افتتاحيات طليع حمدان» (2014).
رفاق الكلمة والمنازلات الزجلية
واكب طليع حمدان نخبة من أعلام الزجل اللبناني والعربي:
زغلول الدامور، زين شعيب، إدوار حرب، موسى زغيب، جريس البستاني، خليل شحرور، وشفيق ديب الذي وصفه في أمسية دمشقية عام 2023 بأنه «مؤسس المنبر الزجلي الحديث».
كانت مواجهاته مع زين شعيب ورفاقه تُعدّ من أكثر اللحظات حماسًا في المهرجانات، حيث يلتقي الصدى بالصدى وتتصافح القوافي كالسيوف.
حفلات خالدة في الذاكرة
من أوتاوا 1975 إلى مهرجانات صور 2005، مرورًا بحفلات صوفر ودمشق وعمان، ظل صوته يحمل رسائل الجبل والكرامة، حتى في شيخوخته.
في يوم الشعر العالمي (دمشق 2023)، أنشد للزلزال والجرح السوري اللبناني المشترك، مؤكداً أن الشعر “يُرمم ما تهدم في الإنسان”.
أما في صوفر 2022، فقد كرّمه وزير الثقافة محمد وسام المرتضى، فوقف بين الناس وقال: “الكرامة مش شعور… الكرامة جبل”.
شاعر الطبيعة والحنين
لقّبوه بـ”شاعر الربيع”، لأن قصيدته تمشي بين الزهر والعطر.
في شعره، الورد يتكلم، والماء يغنّي، والقمر يعانق الليل كعاشقين.
كتب:
«صارت سواقيكي بلا الحان…
نعست الميّ وفلت الفييّ…
ندرتك لمية زهرة رمان.»
وأنشد عن الغربة واللقاء:
«وأغراب ليش بيلتقو أحباب،
وأحباب ليش بيلتقو أغراب.»
كما خاطب الوطن قائلاً:
«جيتو تنسوا غيابكم عنا،
ونحنا بجبلنا وين ما كنا.»
إنها لغة الحنين الممتزجة بعطر الأرض وصدى الروح.
هو شاعرٌ لا يصرخ بل يهمس، فيطبع في القلب أثراً لا يُمحى.
معاناته وأيامه الأخيرة
لم يُعرف عن طليع حمدان معاناة سياسية أو مادية، لكنه كان دائم الشكوى من “وجع الوطن”، ومن الحرب التي فرّقت جوقته الأولى.
في حواراته الأخيرة، قال: “أندم فقط أني مدحت السياسيين مرة… الشعر لا يساوم على كرامته.”
ظل حتى أشهره الأخيرة يشارك في أمسيات؛ ففي عمان (نيسان 2025) شارك في لقاء مع الشاعر عادل خداج، وأبهر الحضور بحضوره وعنفوانه.
مساء 25 تشرين الأول 2025، خبا صوته في بلدته عين عنوب، بعد معاناة صحية لم تُفصّل، عن عمر ناهز 81 عامًا.
ودّعه محبوه في جنازة مهيبة، حضرها النائب أكرم شهيب ممثلاً عن الزعيم وليد جنبلاط، والدكتور كلود عطية عن الحزب السوري القومي، الذي وصفه بـ”ظاهرة أدبية جمعت الأصالة بالحداثة”.
إرثٌ لا يموت
طليع حمدان لم يغادر… بل ترك صدى صوته يتردّد في أودية الجبل،
ترك زهوره تنبت في دواوين الشعراء الشباب،
وترك درسًا بسيطًا للأجيال:
أن الزجل ليس كلامًا على لحن… بل روح على منبر.
فإلى روح “أبو شادي”، الذي جعل الكلمة ربيعًا لا يذبل،
سلامٌ من الجبل إلى السماء…
سلامٌ من الشعر إلى الخلود.



