لبنان: كيان أصيل لا مُصطنع… وهذه هي الحقيقة التي يخشاها البعض
خاص – بقلم فادي الياس
في كل مرة يهتزّ فيها لبنان، تنبعث من زواريب بعض الأروقة السياسية والفكرية المأجورة نغمة نشاز تتكرر منذ عقود: “لبنان كيان مُصطنع”، “صنيعة فرنسا”، “لا هوية له”… كلمات ظاهرها تحليل سياسي، وباطنها محاولة منهجية لنسف فكرة هذا الوطن من جذوره.
لكن الوقائع التاريخية، والخرائط، والدماء التي سُفكت دفاعًا عنه، تقول شيئًا آخر تمامًا: لبنان ليس لقيط خرائط، بل ابن حضارة، وحارس هوية، ودولة دفع شعبها ثمنها غاليًا ليبقى هو، لا جزءًا من أحد، ولا ذيلاً لكيان آخر.
قبل سايكس-بيكو… كان لبنان
منذ الألف الثالث قبل الميلاد، وُجدت على شواطئ هذا البلد مدن مزدهرة مثل جبيل، صيدا، صور، بُنَت حضارات، وتاجرت، وكتبت، وعلّمت، ولم تكن في يوم من الأيام “محافظات في دولة شامية كبرى”.
الفينيقيون، الذين يفتخر الغرب بتأثره بحضارتهم، هم أهل هذه الأرض، وكانت لغتهم الفينيقية أساس الأبجديات العالمية، لا لهجة محلية لولاية سورية مفترضة.
مرّ الغزاة، من الفرس إلى الرومان إلى العرب إلى العثمانيين، لكن الهوية بقيت. وفي كل حقبة، قاوم اللبناني كي يحتفظ بخيط من الخصوصية. منذ عام 1516 حتى نهاية الحكم العثماني، ظلّ جبل لبنان يتمتّع بحكم ذاتي، توّج لاحقًا بنظام المتصرفية عام 1861، وهو أول شكل حديث لدولة لبنانية مصغّرة بإدارة محلية واعتراف دولي.
من قصر الصنوبر… إلى كسر القيد الفرنسي
حين أعلن الجنرال الفرنسي غورو من قصر الصنوبر في بيروت قيام دولة لبنان الكبير عام 1920، لم يكن يؤسس كيانًا جديدًا بقدر ما كان يُعيد جمع الأجزاء التي مزقتها الإدارات العثمانية: بيروت، البقاع، الجنوب، والشمال، تحت مظلة واحدة كانت تطالب بها البطريركية المارونية والقيادات الإسلامية منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى.
وفي عام 1943، انتزع اللبنانيون استقلالهم من فرنسا، عبر ميثاق وطني بين بشارة الخوري ورياض الصلح، أسّس لفكرة أن لبنان ليس تابعًا للغرب، ولا ذائبًا في الشرق، بل كيان مستقل بهوية عربية ذات خصوصية لبنانية واضحة.
الهويّة التي يُراد اغتيالها
اليوم، يُراد للبناني أن يشكّ في كيانه، أن يظن أنه كان مجرّد خط على خريطة استعمارية، وأن لا مفر له إلا الذوبان في مشاريع قومية أكبر.
لكن الحقيقة، أن اللبنانيين واجهوا العثماني، والفرنسي، والإسرائيلي، والسوري، وتمسكوا ببلدهم لأنهم كانوا يدركون أنهم ليسوا مجرّد رعايا، بل أبناء وطن، اسمه لبنان.
هويتهم ليست مستوردة، بل متجذّرة: في لغتهم الممزوجة، في موسيقاهم، في تعدديّتهم الطائفية والثقافية التي لم تُصهر بلون واحد، بل شكّلت غنى فريدًا. حتى لهجتهم، ليست نسخة من لهجة دمشق أو القاهرة، بل لهجة لبنانية مميّزة، لا تُخطئها الأذن.
لمن يقول: “لبنان كيان فرنسي”…
إليك هذا السؤال:
لو كان لبنان اختراعًا فرنسيًا، لماذا قاتل الفرنسيين، ورفض أن يكون تحت وصايتهم؟
ولو لم يكن له هوية، لماذا خشيته مشاريع القومية المتطرفة، وحاولت ذوبانه؟
ولو لم يكن وطنًا حقيقيًا، فبمَ نفسّر كل الدماء التي سُفكت من أجله منذ عام 1860 حتى اليوم؟
الجواب واضح: لأن لبنان كيان حقيقي، وهوية قائمة بذاتها، ودولة كانت موجودة قبل أن تُولد دول أخرى من رحم الخرائط الحديثة.
لبنان أولًا… لا شعار بل حقيقة
لبنان ليس بلدًا يختلق شعارات وطنية ليداري فراغًا داخليًا، بل بلد تُعبّر شعاراته عن تمسّكٍ عميق بالذات.
الشعب اللبناني، رغم كل الانهيارات، والخذلان السياسي، والحصار الاقتصادي، لا يزال يهتف:
“لبنان أولًا”… لا خوفًا من الآخر، بل إيمانًا بأن لا أحد يُشبهه.
لبنان ليس مُصطنعًا، ولا ورقة فرنسية، ولا منطقة شاردة عن سوريا الكبرى.
لبنان هو وطن حقيقي، صنعه التاريخ، ووقّع عليه الدم، وثبّته شعب يعرف تمامًا من هو، وماذا يريد، وأين ينتمي.
فمن لا يرى لبنان كدولة ذات هوية، هو إمّا حاقد… أو أعمى عن الحقيقة.