اتفاق القاهرة اميل بستاني ياسر عرفات

لبنان والمنظمة: حين تحوّل اللجوء إلى فوهة بندقية

وكالة أسنا للأخبار ASNA

بيروت – خاص
في زمنٍ كانت فيه بيروت تُلقّب بـ”باريس الشرق”، كان أحد أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين يتمدّد في شوارعها الخلفية، يتحوّل شيئًا فشيئًا إلى دولة داخل الدولة، ويفرض واقعًا مسلحًا سيقود لاحقًا إلى واحدة من أشرس الحروب الأهلية في القرن العشرين.

القصة بدأت، كما كل المآسي، بحزن. فبعد نكبة فلسطين عام 1948، استقبل لبنان ما يقارب 100 ألف لاجئ فلسطيني، على قاعدة الضيافة والتضامن العربي. نصبوا خيامهم على أطراف المدن والقرى، وارتضوا بعيشة بائسة، على أمل أن تكون العودة قريبة.

لكن التاريخ كان يعدّ سيناريو آخر.

من أيلول الأردن إلى جنوب لبنان

في عام 1970، وبعد أحداث “أيلول الأسود”، طُردت منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن، فحطّت رحالها في لبنان، مستفيدة من هشاشة النظام السياسي، وضعف الدولة، وتنوّع التركيبة الطائفية.

مع توقيع “اتفاق القاهرة” عام 1969 بين ياسر عرفات وقائد الجيش اللبناني آنذاك إميل بستاني، حصل الفلسطينيون على حق تنظيم أنفسهم عسكريًا داخل المخيمات، واستخدام الجنوب اللبناني كنقطة انطلاق للعمليات ضد إسرائيل.

لكن هذا الاتفاق الذي وُصف حينها بأنه “تسوية ذكية”، تحوّل إلى حصان طروادة دخلت من خلاله التنظيمات المسلحة إلى عمق المشهد اللبناني، ومع الوقت بات السلاح الفلسطيني يُستخدم ليس فقط ضد إسرائيل، بل في وجه اللبنانيين أنفسهم.

المخيمات تتحول إلى ثكنات

تحوّلت المخيمات الكبرى، مثل صبرا، شاتيلا، تل الزعتر، والبداوي إلى قواعد عسكرية بكل ما للكلمة من معنى. وكان اللاجئ الفلسطيني قد خرج من خيمته، ليتسلّح، ويتدرب، ويخوض معارك على الأرض اللبنانية.

وفي الجنوب، وُلد ما سُمّي بـ”فتح لاند” — منطقة تمتد من النبطية إلى صور، حوّلها الفدائيون إلى منطقة خارجة عن سلطة الدولة، يُفرض فيها قانون خاص، وتُجبى فيها الضرائب من المزارعين، ويُحتجز فيها من يُخالف.

مجازر لا تُنسى

من المحطات السوداء التي خُلّدت في الذاكرة اللبنانية، مجزرة الدامور في 20 كانون الثاني 1976، حين دخلت ميليشيات تابعة للجبهة الشعبية وفتح البلدة المسيحية الساحلية، وارتكبت فظائع موثقة، راح ضحيتها أكثر من 500 مدني، بينهم نساء وأطفال، وتم تدمير البلدة وتهجير سكانها بالكامل.

في المقابل، كانت معركة تل الزعتر، تشهد مواجهة دموية بين الميليشيات الفلسطينية والقوات المسيحية، وانتهت بمجزرة أخرى، ما وضع البلاد على خط النار المفتوح، وكرّس الاحتراب الطائفي والمناطقي.

هل كان لبنان “وطناً بديلاً”؟

مع الوقت، بدأ يتردّد داخل أروقة بعض القيادات الفلسطينية ما يُشبه القبول الضمني بأن لبنان، أو جزءًا منه، قد يكون الوطن البديل للفلسطينيين، خصوصًا مع الانهيار العربي الشامل، والقبضة الإسرائيلية المتشددة.

لبنان، الصغير والمفتّت، بدا وكأنه الثمن الممكن دفعه لتثبيت واقع جديد، خاصة أن الوجود الفلسطيني المسلح في البلاد بات أمرًا واقعًا.

هذا الواقع أطلق أجراس الإنذار داخل المجتمع المسيحي اللبناني، الذي رأى في ما يجري تهديدًا وجوديًا مباشرًا، فبدأت المقاومة اللبنانية تتشكّل كرد فعل لا على الفلسطيني كلاجئ، بل على الفلسطيني كمُحتلّ.

الجنوب في مرمى النار

عمليات منظمة التحرير ضد إسرائيل من الجنوب اللبناني، قادت إلى الرد الإسرائيلي العنيف، بدءًا من اجتياح 1978 (عملية الليطاني)، مرورًا بغارات لا تنتهي على قرى الجنوب، وصولاً إلى اجتياح بيروت عام 1982، حيث طُردت الفصائل الفلسطينية من لبنان للمرة الأخيرة، بعد أن دفعت البلاد ثمناً باهظاً من الدم والدمار.

الفلسطيني من ضيف إلى مُهيمن

الوجود الفلسطيني في لبنان بدأ بصفة اللاجئ المقهور، وانتهى بصورة المقاتل المتحكم بمصير مناطق لبنانية كاملة. بين النكبة والنكسة، وبين أوسلو واجتياح بيروت، دخلت القضية الفلسطينية في نفق دموي على الأرض اللبنانية، لم تخرج منه إلا بعد أن تركت وراءها بلدًا مدمّرًا، ومجتمعًا مقسومًا، وجرحًا لم يندمل بعد.

السؤال اليوم ليس عن الحق الفلسطيني بالعودة، بل عن حق لبنان بأن لا يُستخدم مرةً أخرى ساحةً لتصفية الحسابات، ولا يكون “وطنًا بديلاً” لأحد.

Join Whatsapp