الاغتراب اللبناني والانتشار

وجع الداخل وحنين الخارج: من قال إن الاغتراب لا ينزف؟

وكالة أسنا للأخبار – ASNA

تقرير خاص بالاغتراب اللبناني

منذ اندلاع ثورة 17 تشرين الأول 2019، لم يعد الوطن كما كان، ولم يعد الاغتراب كما يُظن. لبنان دخل نفقًا مظلمًا من الأزمات والانفجارات والانهيارات، جعلت من الحياة اليومية معركة مفتوحة على الجوع والفقر والذل والخوف. وفي المقابل، عانى المغتربون اللبنانيون من شكلٍ آخر من الألم، لا يقلّ قسوةً وإن كان مختلفًا في ملامحه. بين من يعيش الانهيار لحظةً بلحظة على أرض الوطن، ومن يشاهده يحترق من خلف شاشة في قارة أخرى، كان الوجع واحدًا والجرح مشتركًا.

الداخل: وطن يتفكك على رؤوس أهله

منذ ثورة تشرين 2017، بات اللبناني في الداخل يواجه سلسلة كوابيس متواصلة:

  • انهيار اقتصادي شامل قضى على قيمة الليرة، ومسح الطبقة الوسطى من الوجود.
  • مصارف احتجزت أموال الناس، وحوّلت المودعين إلى متسوّلين أمام نوافذ البنوك.
  • انفجار مرفأ بيروت الذي مزّق قلب العاصمة، ولم تلتئم جراحه بعد.
  • انقطاع الكهرباء والدواء والخبز، وعودة مشاهد الطوابير والذل اليومي.
  • حرب متقطعة على الجبهة الجنوبية، تركت آلاف الأهالي بين التهجير والدمار والخوف الدائم.
  • تفكك مؤسسات الدولة، وغياب العدالة، وازدهار الفساد بلا محاسبة.

وسط هذا الركام، صمد اللبناني في الداخل، قاوم، احتج، بكى، صرخ، هاجر، أو انكفأ في صمته. لكن الوجع لم يُترجم فقط بمن بقي، بل تسلل أيضًا إلى أولئك الذين حملوا لبنان معهم في حقائب السفر.

المغترب: الوطن على البعد أقسى

القول إن المغترب اللبناني “ارتاح” أو “هرب” ليس سوى اختزال مؤذٍ لمعاناة لا تُرى بالعين المجردة. فالمغترب حمل جرحه في صمت، ودفن ألمه في صخب المطارات ووجع الغربة:

  • شعور دائم بالعجز والذنب: يراقب أهله ينهارون، وبلده ينهدم، وهو غير قادر على التغيير.
  • تحوّل إلى خزينة إنقاذ: أُجبر على تحويل مدخراته شهريًا لدعم عائلته، فيما أمواله في لبنان تبخّرت.
  • فقدان أقرباء عن بُعد: من لم يُسمح له بحضور جنازة والدته، أو وداع صديق سقط في الانفجار، يعرف أن الغربة خنجر صامت.
  • أزمة هوية: ممزق بين وطن لا يستقبله إلا عندما يحتاجه، وبلد جديد لا يمنحه الانتماء الكامل.
  • حزن متراكم وانفصال قسري: كل أزمة في لبنان كانت كأنها طعنة تصيبه عن بُعد، ولا يملك سوى أن يشاهد ويتألّم.

ورغم ذلك، لم يتخلّ المغتربون عن واجبهم تجاه وطنهم. بل كانوا من أوائل من نظموا الاحتجاجات في العواصم الغربية، وأطلقوا المبادرات الإغاثية، ووقفوا إلى جانب أهلهم ليس من باب الشفقة بل من باب الانتماء والمسؤولية.

لا أحد يملك وجعًا حصريًا

من يقول إن المغترب لا يحق له إبداء الرأي لأنه “لم يعِش المعاناة”، ينسى أن الاغتراب لم يكن يومًا نزهة. المعاناة لا تقتصر على مَن يتنفسها في الهواء المسموم، بل تمتد إلى من يعيشها بكل حواسه في الغربة، ولا يملك حتى حق الصراخ. الفرق ليس في شدّة الألم، بل في نوعيته.

من بقي في لبنان حمل الخبز على الأكتاف، ومن رحل حمل الوطن على الظهر. كلاهما أُنهك، وكلاهما ضائع، وكلاهما صادق في ألمه. فالشتات لم يعفِ أحدًا من النزف، بل زاد من مرارة المشهد لأن الوجع أصبح بلا جغرافيا.

اللبناني اليوم، في الداخل أو الخارج، هو ابن بلدٍ خذلته دولته وسرقته نخبه. الوطن سقط على الجميع، والتاريخ لن يميز بين مَن بكى في مار مخايل، أو من انكسر في سيدني، أو من أرسل دولاراته من أبيدجان ليطعم عائلة لم يعد قادراً حتى على رؤيتها.

قال علي من أحد البلدان الافريقية، “من قال إن المغترب لا يبكي؟“، أما أبو جوزاف الذي هاجر الى كندا عام 2014 فقال، “اللبناني عايش ما بين نار الداخل وجمر الغربة“. عبّرت صاحبة مطعم في مدينة بوسطن الأميركية “في بيروت ينهارون، وفي الاغتراب ينزفون“، أما السيّد كميل الذي عاش في الولايات المتحدة من سبعينات القرن الماضي فعبّر بغصّة ودمعة وقال “أنتم جعتُم.. ونحن اختنقنا صمتاً.

واعتبر الدكتور حمادي من استراليا انه “مش كل مين برا مرتاح.. ومش كل مين جوّا شايف الصورة كاملة”، هذا وأشارت سينتييا وهي تعمل في مجالات العقارات في مدينة لوس أنجلوس الاميركية، انها تركت لبنان في العام 2009 بعد ان فقدت الأمل بتحسن الاوضاع، انها تشتاق للبنان كثيرا وقالت “اللي هاجر حمل البلد.. واللي بقي اندفن فيه.” هذا واستذكر حسن الذي تعوّد ان يزور لبنان مرتين في السنة، ان الأزمات الاقتصادية في لبنان تحدث كل 15 سنة، ويقول انه خسر أمواله كلها في الثمانينات والتسعينات وفي الأزمة الأخيرة وقال “نحن بين مطرقة الدولار وسندان الحنين: لا أحد نجا.”

أما ميشلين التي تركت لبنان عام 2023 فقالت “الوطن سرق الكل.. بس كل واحد بطريقته.” وبغصة ونوع من الغضب، انتقد شوقي ما وصفه بمشاهد الفحش، في ما يراه على مواقع التواصل من سهر وحفلات “المغترب مش بنك.. والمقيم مش وحده موجوع،” ليردّ عليه زميله جميل “ارحموا بعضكن.. الوطن سَحَقنا كلنا.”

Join Whatsapp