الفينيقيون: أول سادة البحر الأبيض المتوسط

يُعتبر الفينيقيون من أبرز الشعوب القديمة التي كان لها تأثير هائل في الحضارات المحيطة بهم، ليس فقط بسبب براعتهم في الملاحة والتجارة، بل لأنهم أسسوا واحدًا من أعظم إرث العالم: الأبجدية.

أطلق الإغريق على الفينيقيين اسم “الشعب الأرجواني” نسبة إلى الصبغة الأرجوانية النادرة التي استخرجوا لونها من أصداف بحرية. لكن مساهماتهم تجاوزت بكثير مجرد إنتاج الأصباغ. فقد كانوا بحّارة ماهرين، ومخترعين مبدعين، وتجارًا ذوي رؤية، وأسسوا شبكة مستعمرات امتدت من شواطئ المشرق حتى المحيط الأطلسي.

الأصول والموقع

نشأت الحضارة الفينيقية في المنطقة التي تُعرف اليوم بلبنان، وسمّى السكان أنفسهم “كنعانيين”. وقد وصف المؤرخ اليوناني هيرودوت الفينيقيين بأنهم ملاحون محترفون، وتجار بارعون، ومحاربون بحريون. وأشار هوميروس إليهم في أعماله كصناع منسوجات جميلين وتجار نشطين من شرق المتوسط إلى حدود إسبانيا.

كان الفينيقيون من الشعوب السامية، لغتهم قريبة من العبرية والآرامية، وكانت أهم مدنهم: صور، وصيدا، وجبيل.

إمبراطورية تجارية لا عسكرية

اعتمد الفينيقيون في بناء حضارتهم على التجارة، لا على الغزو. فقد صدّروا الأخشاب والمعادن والمنسوجات إلى مصر، وبلاد ما بين النهرين، والأناضول، واليونان، وأقاموا مستعمرات مزدهرة مثل قرطاج في شمال أفريقيا، وقادِش (قادس) على الساحل الإسباني.

مكنتهم مهاراتهم الملاحية من الوصول إلى مناطق بعيدة مثل بريطانيا للحصول على القصدير، وغرب أفريقيا للحصول على الذهب. وأتاح لهم هذا شبكة تجارية قوية مكنتهم من بناء مدن مزدهرة مثل صور، التي أصبحت قوة مهيمنة بين القرن التاسع والسادس قبل الميلاد، قبل أن تقع تحت الحكم الفارسي ومن ثم يغزوها الإسكندر الأكبر.

المدن الكبرى والأثر الثقافي

كانت جبيل من أقدم مدنهم، واحتفظت بأهميتها كميناء رئيسي لتصدير الأخشاب إلى مصر، وبرزت بشكل كبير بعد انهيار المملكة المصرية الحديثة. وقد نشأت فيها أولى الأبجديات الفينيقية، والتي تعود نقوشها إلى القرن العاشر قبل الميلاد.

أما الأبجدية الفينيقية فكانت اختراعًا ثوريًا في تاريخ الكتابة. تميزت ببساطتها وسهولة تعلّمها، ما جعلها قابلة للتبني من قبل شعوب أخرى، مثل الإغريق الذين اقتبسوا منها الأبجدية اليونانية. وقد ساعد التجار الفينيقيون على نشر هذه الأبجدية في أنحاء المتوسط، لتصبح واحدة من أكثر نظم الكتابة تأثيرًا في التاريخ.

أحد أبرز الأمثلة الباقية من النصوص الفينيقية هو نقش على تابوت الملك أحيرام في جبيل، ويعود إلى نحو عام 850 قبل الميلاد.

إرث خالد

رغم قلة النصوص الباقية بالفينيقية، فإن تأثيرها في تطور أنظمة الكتابة كبير جداً. فبفضل البساطة والفاعلية في نقل اللغة، أسست الأبجدية الفينيقية قاعدة لأنظمة كتابة لاحقة في الشرق والغرب على حد سواء.

لقد كان الفينيقيون بحق بناة إمبراطورية من نوع فريد، إمبراطورية لا قامت على السيوف، بل على السفن والحروف.

Join Whatsapp