تحقيق بيئي – بقلم ليلى ناصر
على الساحل الشمالي لمدينة جبيل الأثرية، وفي بلدة عمشيت المعروفة بجمالها الطبيعي وهدوئها البحري، تمتد مغارة الفقمة كجوهرة طبيعية نادرة تختصر تاريخًا بيئيًا فريدًا للبحر الأبيض المتوسط.
تُعد المغارة موئلًا طبيعيًا لفقمة الراهب المتوسطية (Monachus monachus)، وهي من أكثر الكائنات المهددة بالانقراض عالميًا وفق اللائحة الحمراء للاتحاد الدولي لصون الطبيعة (IUCN).
سُمّيت المغارة بهذا الاسم نسبةً إلى رسوم جدارية قديمة عُثر عليها في جدرانها تُظهر فقمات البحر، ما يمنحها بعدًا ثقافيًا وتاريخيًا إلى جانب أهميتها البيئية. وتُصنف ضمن المواقع الحساسة بيئيًا بحسب اتفاقية برشلونة لحماية البيئة البحرية في المتوسط.
ورغم ذلك، لم تُعلن حتى الآن محمية طبيعية رسمية، على الرغم من توثيق مشاهدات حقيقية للفقمة فيها خلال السنوات الأخيرة.
خلفية القضية
بدأت فصول القضية عام 2021 حين كشف المهندس والناشط البيئي فريد أبي يونس عن أعمال حفر وبناء تجري على العقار رقم 345 في منطقة عمشيت العقارية، الملاصقة للأملاك البحرية العامة. المشروع كان يهدف إلى إنشاء فيلا سكنية خاصة، غير أن طبيعة الأعمال واستخدام المعدات الثقيلة مثل “الجاك هامر” أثارت مخاوف حقيقية من انهيار المغارة الصخرية أو تدمير موئل الفقمة النادر.
وخلال عمليات المسح، تم اكتشاف مغارة ثانية مجاورة، ما جعل المشروع بين موقعين طبيعيين متصلين بالبحر، وزاد من حجم الخطر البيئي.
القضية تطوّرت على مدى السنوات اللاحقة:
- 2022: خرجت احتجاجات من أهالي عمشيت وناشطين بيئيين للمطالبة بإجراء دراسة أثر بيئي (EIA) تطبيقًا للمرسوم 8633/2012 وقانون البيئة رقم 444/2002، ما دفع وزارة البيئة إلى تجميد الأعمال مؤقتًا.
- 2023: جمعية الأرض – لبنان برئاسة بول أبي راشد دعت رسميًا إلى وقف كامل للمشروع، مشددة على أن المغارة تُعد أحد آخر المواطن الطبيعية لفقمة الراهب في المشرق. وقدمت الجمعية شكوى إلى مجلس شورى الدولة، لكنها سقطت شكلاً دون النظر في المضمون بسبب انقضاء المهلة القانونية.
- 2025: في 15 أكتوبر، وثّق فريد أبي يونس عبر فيديو دخول جرافة ضخمة إلى الموقع عند الساعة 6:30 صباحًا لاستئناف الحفر في مشروع يخص الإعلامية رولا بهنام. أثار ذلك غضبًا شعبيًا واسعًا، وتقدّمت جمعية الأرض وناشطون بعدة شكاوى إلى وزارة البيئة وبلدية عمشيت.
وبحلول 18 و19 أكتوبر 2025، أعلنت وزارة البيئة إرسال فريق علمي ميداني للمعاينة وإعداد تقرير نهائي متوقع صدوره في 20 أكتوبر، داعية إلى وقف فوري للأعمال لحين صدور النتائج.
الأطراف المعنية
الجهة | الدور والمسؤولية |
---|---|
فريد أبي يونس | ناشط بيئي محلي، أول من كشف القضية ووثّق المخالفات. |
جمعية الأرض – لبنان (بول أبي راشد) | رفعت الشكاوى القانونية وتطالب بتصنيف المغارة كمحمية طبيعية. |
وزارة البيئة (تمارا الزين) | أوقفت الأعمال موقتًا وأرسلت فريقًا علميًا للتحقق من الأضرار. |
بلدية عمشيت | منحت تراخيص البناء الأولية وتواجه مطالبات بوقف المشروع نهائيًا. |
وزارة الأشغال العامة | الجهة المعنية بتنظيم الأملاك البحرية العامة. |
رولا بهنام | صاحبة المشروع الحالي محل النزاع. |
الناشطون والأهالي | نظموا احتجاجات واعتصامات دفاعًا عن الشاطئ والمغارة. |
الموقف الدولي: المتوسّط يدافع عن عمشيت
لم تبقِ القضية ضمن الإطار المحلي، إذ أصدرت منظمة SAD-AFAG التركية، وهي من أبرز الهيئات العالمية المتخصصة بحماية فقمة الراهب المتوسطية، بيان إدانة رسمي وُجّه إلى الوزارات اللبنانية عبر جمعية الأرض – لبنان.
المنظمة أكدت أن مغارة عمشيت تُعدّ أهم موئل فعّال للفقمة في المشرق، وأن أي أعمال بناء فوقها تمثل تهديدًا مباشرًا لتراث طبيعي متوسطي لا يُقدّر بثمن.
كما دعت الحكومة اللبنانية إلى تطبيق صارم للقوانين البيئية ووقف الأعمال فورًا، التزامًا باتفاقية برشلونة التي تُلزم لبنان بحماية تنوعه البحري.
نسخ من الرسالة أُرسلت إلى منظمات بيئية دولية ومتوسطية، في تأكيدٍ على أن البحر الأبيض المتوسط بأكمله يقف اليوم مع عمشيت.
المخاطر الحالية
حتى 19 أكتوبر 2025، استمرت أعمال الحفر في الموقع، ما أدى إلى تكوّن حفرة كبيرة تهدد استقرار المغارة. الجمعيات البيئية اللبنانية حذّرت من:
- تدمير الموئل الطبيعي لفقمة الراهب وانقراضها محليًا.
- التعدي على الأملاك البحرية العامة خلافًا للقرار 144/س لعام 1925 والمرسوم 4810/1966.
- مخالفة التزامات لبنان الدولية في مجال حماية البيئة البحرية.
في المقابل، يطالب الناشطون والجهات البيئية بتحويل الشاطئ والمغارة إلى محمية بحرية وسياحية طبيعية، تجمع بين السياحة المستدامة والحفاظ على التنوع البيولوجي، لتكون نموذجًا يحتذى في الإدارة البيئية الساحلية.
بين الاستثمار والضمير البيئي
إن قضية مغارة الفقمة في عمشيت لا تختصر نزاعًا عقاريًا محليًا، بل تمثل امتحانًا حقيقيًا لمدى احترام لبنان لالتزاماته البيئية. فهل يجوز أن يُضحّى بموئل فقمة نادرة من أجل فيلا فاخرة؟
ما يجري في عمشيت يعكس صراعًا بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة، بين من يرى البحر فرصة استثمارية ومن يراه كائنًا حيًا يستحق الحياة.
إنّ مغارة الفقمة في عمشيت ليست مجرّد كهف على الساحل، بل شاهد على علاقة لبنان بالبحر والطبيعة والتاريخ. حمايتها اليوم هي اختبار للضمير الوطني قبل أن تكون إجراءً قانونيًا، ورسالة إلى العالم بأن لبنان قادر على صون إرثه الطبيعي كما يصون ذاكرته وحضارته. إذا صمتت الدولة، فسيبقى البحر وحده يعبّر عن غضبه… موجةً بعد موجة، دفاعًا عن مغارته الأخيرة وعن فقمته التي تصارع من أجل البقاء.